فصل: سئل عن بيع الجوز واللوز والمغيبات في الأرض

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن بيع الجوز واللوز، والبندق والفستق، والفول والحمص، ذوات القشور، هل يصح بيعه على مذهب الشافعي‏؟‏ وهل يصح على مذهبه البيع والشراء من غير تلفظ بالمعاقدة ‏؟‏ واللفت والجزر والقلقاس، هـل يصح بيعه وهو في الأرض مغيب، أم لا ‏؟‏

/فأجاب‏:‏

الحمد للّه، أما مذهب الشافعي المنصوص عنه، فإنه لا يجوز هذه البيوع، لكن جمهور العلماء على خلاف ذلك، وهو الصحيح‏.‏

أما الأولى فمذهب الثلاثة أنه يصح ـ مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم ـ وقد حكي ذلك قولًا للشافعي؛ فإنه في مرض موته اشترى الباقلا الأخضر، وهو الذي عليه العمل من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين في جميع الأعصار والأمصار‏.‏ وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد، وعن بيع العنب حتى يسود‏.‏ فدل ذلك على جواز بيع الحب بعد اشتداده، وإن كان في سنبله، وعلى قول من يمنع بيع الباقلا في قشره لا يجوز ذلك؛ ولهذا عد الطرسوسي وغيره المنع من بيع الباقلا من البدع المحدثة، فإنه لا يعرف عن أحد من السلف أنه منع ذلك‏.‏

وحجة المانع‏:‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، فظنوا أن هذا مجهول، وليس الأمر كذلك، فإن هذه الأعيان تعرف كما يعرف غيرها من المبيعات التي يستدل برؤية بعضها على جميعها‏.‏

وكذلك المشهور من مذهب الشافعي، أنه لابد في العقود من الصيغ، فلا يصح بيع المعاطاة، لكن الجمهور يخالفون هذا‏.‏ فمذهب مالك أن كل ما عده الناس بيعًا فهو بيع، فيجوز بيع المعاطاة في القليل/ والكثير، وكذلك ظاهر مذهب أحمد‏.‏ ومذهب أبي حنيفة تجويز ذلك في المحقرات، وهو قول آخر في مذهب أحمد، وقول طائفة من أصحاب الشافعي‏.‏

وأيضا، أن العقود يرجع فيها الى عرف الناس‏.‏ فما عده الناس بيعًا أو إجارة، أو هبة، كان بيعًا، وإجارة، وهبة؛ فإن هذه الأسماء ليس لها حد في اللغة والشرع‏.‏ وكل اسم ليس له حد في اللغة والشرع فإنه يرجع في حده الى العرف‏.‏

وأما بيع المغيبات في الأرض؛ كالجزر واللفت والقلقاس، فمذهب مالك أنه يجوز، وهو قول في مذهب أحمد‏.‏ ومذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المعروف عنه أنه لا يجوز، والأول أصح وهو أنه يجوز بيعها، فإن أهل الخبرة إذا رأوا ما ظهر منها من الورق وغيره دلهم ذلك على سائرها‏.‏

وأيضا، فإن الناس محتاجون الى هذه البيوع، والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس اليه من البيع، لأجل نوع من الغرر، بل يبيح ما يحتاج اليه في ذلك، كما أباح بيع الثمار قبل بدو صلاحها مبقاة الى الجذاذ، وإن كان بعض المبيع لم يخلق، وكما أباح أن يشترط المشتري ثمرة النخل المؤبر، وذلك اشتراء قبل بدو صلاحها، لكنه تابع للشجرة، وأباح بيع العرايا بخرصها، فأقام التقدير بالخرص مقام التقدير بالكيل / عند الحاجة، مع أن ذلك يدخل في الربا الذي هو أعظم من بيع الغرر ـ وهذه ‏[‏قاعدة الشريعة‏]‏ وهو تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما ـ وبيع ما يكون قشره صونا له، كالعنب والرمان والموز والجوز واللوز في قشره الواحد، جائز باتفاق الأئمة‏.‏

 

وسئل عن رجل اشترى من رجل ستة وعشرين فدان قلقاس، بتسعة آلاف درهم، وأمضي له البيع في ذلك، فقلع المشتري من القلقاس المذكور، ثم بعد ذلك جاء رجل آخر زاد عليه ألف درهم، فقبل الزيادة وطرد المشتري الأول، ثم زاد المشتري الأول على الثاني خمسمائة وتسلم القلقاس، وقلع منه مركبًا وباعها، وأورد له ثمنها ثم بعد ذلك زاد عليه فطرده، وكتب القلقاس على الذي زاد عليه، فهل يصح شراء الأول ‏؟‏ أو الثاني ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، هذا الذي فعله البائع غير جائز، بإجماع المسلمين، بل يستحق العقوبة البليغة، فإن بيع القلقاس ونحوه من المغيبات في الأرض، كالجزر؛ واللفت، ونحو ذلك، إما أن يكون جائزًا على أحد/ قولي العلماء؛ كمالك، وقول في مذهب أحمد وغيرهما‏.‏وإما ألا يكون جائزًا على قول أبي حنيفة، والشافعي، والمشهور عن أحمد‏.‏ فإن كان جائزًا كان البيع الثاني حرامًا مع الأول، وهذا البائع لم يترك البيع الأول لكونه معتقدًا تحريمه، لكن لأجل بيعه للثاني، ومثل هذا حرام بإجماع المسلمين‏.‏

والصحيح أن بيع القلقاس جائز، ولا يحل قبول الزيادة، فيكون للمشتري الأول‏.‏ ومن قال‏:‏ إنه باطل، قال‏:‏ ليس للبائع إلا ثمن المثل، فيما أخذ منه، أو الأقل من قيمة المثل‏.‏

 وسئل عمن هاجر من بلد التتر، ولم يجد مركوبًا فاشترى من التتر ما يركب به، فهل عليه الثمن بعد هجرته الى دار الإسلام ‏؟‏

فأجاب‏:‏

نعم، إذا اشتري منهم، فعليه أن يعطي الثمن لمن باعه، وإن كان تتريًا‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/

 

وسئل عن تاجر رسم له بتوقيع سلطاني بالمسامحة بألا يؤخذ منه شيء على متجرة، فتاجر سفرة، فباع التوقيع الذي بيده لتاجر آخر؛ لأجل الإطلاق الذي فيه، فهل يصح بيع ما في التوقيع‏؟‏ ثم إن المشتري للتوقيع بطل سفره ولم ينتفع، فهل يلزمه أداء الثمن ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، هذا البيع ليس مقصوده بيع الورقة؛ فإن قيمتها يسيرة، بل لا تقصد بالبيع أصلا، وإنما مقصوده أن الوظيفة التي كان يأخذها نواب السلطان تسقط عنه الحقوق، ويأخذ هذا البائع بعضها، أو عوضها منه؛ لأن البائع كانت تسقط عنه‏.‏

وهذا يشبه ما يطلق من بيت المال، بشرط أن يكون إطلاقا لمن وفد على السلطان أو خرج بريدًا أو غير ذلك‏.‏ وهذا إنما يعطاه إذا عمل ذلك العمل، فإذا لم يخرج ولا عوضه لم يعطه‏.‏ وإذا كان كذلك، فإذا كان هذا للعارض، لا هو ولا صاحب التوقيع لم يطلق له شيء، وحينئذ فلا يستحق على المشتري شيئًا، وليس ما ذكر / لازمًا حتى يجب بمجرد العقد، بل غايته أن قيل بالجواز كان جائزًا، والحالة هذه‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن رجل باع سلعة مثل ما يبيع الناس، ثم بعد طلب منه أكثر من ذلك، والسلعة تالفة، وهي من ذوات الأمثال، فهل له الرجوع بمثلها مع وجود المثل‏؟‏

فأجاب‏:‏

ليس له مطالبته بزيادة على السعر الواقع وقت القبض، وهو ثمن المثل، لكن يطلب سعر الوقت، وهو قيمة المثل، وذلك أن في صحة هذا العقد روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ يصح، كما يصح مثل ذلك في الإجارة إذا دفع الطعام الى من يطبخ بالأجرة، وإذا دخل الحمام، أو ركب السفينة، فعلى هذا العقد صحيح، والواجب المسمي‏.‏

والثانية‏:‏ أن العقد فاسد، فيكون مقبوضـًا بعقد فاسد، وقد يقال‏:‏ إنه يضمن بالمثل، إن كان مثليًا وإلا بالقيمة، كما يضمن المغصوب، وهذا قول طائفة من أصحابنا وغيرهم، كالشافعية، لكن هنا قد تراضوا / بالبدل الذي هو القيمة، كما تراضوا في مهر المثل على أقل منه أو أكثر‏.‏ ونظيره أن يصطلحا حيث يجب المثل أو القيمة على شيء مسمي، فيجب ذلك المسمي؛ لأن الحق لهما، لا يعدوهما‏.‏

ونظير هذا‏:‏ قول أصحاب أحمد في المشاركة الفاسدة‏.‏ يظهر أثره في الحل، وعدمه، لا في تعيين ما تراضيا عليه، كما لا يظهر أثره في الضمان، بل ما ضمن بالصحيح ضمن بالفاسد، وما لا يضمن بالصحيح لا يضمن بالفاسد، فإذا استويا في أصل الضمان‏.‏ فكذلك في قدره‏.‏ وهذه نكتة حسنة لمن تدبرها‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن رجل أخذ سنة الغلاء غلة، وقال له‏:‏ قاطعني فيها، قال له‏:‏ حتى يستقر السعر، وصبر أشهرًا، وحضر فأخذ حظه بمائة وخمسين إردبًا، فهل له ثمن أو غلة ‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، الصحيح في هذه المسألة أن له ما تراضيا، وهو المائة والخمسون، سواء قيل‏:‏ إن الواجب كان أولا هو السعر على أحد قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، أن البيع بالسعر صحيح‏.‏ أو قيل‏:‏ إن البيع كان باطلًا، وأن الواجب رد البدل، فإنهما إذا اصطلحا عن البدل بقيمته ـ وقت الاصطلاح ـ جاز الصلح، ولزم‏.‏ كما أن الزوجين إذا اصطلحا / على قدر مهر المثل، أو أقل، أو أكثر، جاز ذلك، سواء كان هناك مسمي صحيح، أو لم يكن‏.‏ ولا يقال‏:‏ القابض كان يظن أن الواجب عليه القيمة، فالواجب إنما هو رد المثل‏.‏ لا يقال‏:‏ هذا فيه نزاع‏.‏

وأكثر العلماء يقولون‏:‏ إذا قبضت العين، وتصرف فيها لم يكن الواجب رد الثمن، إما بناء على صحة العقد، وإما بناء على أن المقبوض بالعقد الفاسد يملك بقول أبي حنيفة، ويملك إذا مات بقول مالك، وإذا كان فيه نزاع، فإذا اصطلحا على ذلك كان الصلح في موارد نزاع العلماء، وهو صلح لازم‏.‏

 وسئل ـ رَحمه اللّه‏:‏ هل يجوز بيع المشاع ‏؟‏

فأجاب‏:‏

يجوز بيع المشاع باتفاق المسلمين، كما مضت بذلك سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛مثل قوله الذي في صحيح مسلم ‏:‏ ‏(‏أيما رجل كان له شرك في أرض،أو ربعة،أو حائط،فلا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه،فإن شاء أخذ،وإن شاء ترك،فإن باع / قبل أن يؤذنه فهو أحق به بالثمن‏)‏ ‏.‏

وكذلك يضمن بالإتلاف، وما هو في معني الإتلاف، كالسراية في العتق، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أعتق شركًا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة عدل، لاوَكْس، ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد‏)‏ ‏.‏

وإذا باع الشقص المشاع، وقبضه أو لم يقبضه، فقد اتفق المسلمون على أن حق الشريك باق في النصف الآخر، وإن لم يتصرف بأنواع التصرفات الجائزة في المال المشترك، فللمشتركين أن يتهايآ فيه بالمكان أو بالزمان‏.‏ فيسكن هذا بعضه، وهذا بعضه، وبالزمان يبدأ هذا شهرًا، ويبدأ هذا شهرًا، ولهما أن يؤجراه، ولأحدهما أن يؤجره من الآخر، ومن امتنع منهما من المؤاجرة أجبر عليها، عند جمهور العلماء إلا الشافعي، وفي الإجبار على المهايأة أقول ثلاثة معروفة‏.‏

/

 

وسئل عن رجل له شريك في خيل، وباع الشريك الخيل لمن لا يقدر رفيقه على تخليصها بغير إذن الشريك، فهل يلزمه القبض ‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا باع نصيبه، وسلم الجميع الى المشتري، وتعذر على الشريك الانتفاع بنصيبه، كان ضامنا لنصيب الشريك، فإما أن يمكنه من نصيبه، وإما أن يضمنه له بقيمته‏.‏

 وسئل عن شركة في ملك بشهادة شهود بينهم، ثم إن بعض الشركة باع الملك جميعه بشهادة أحد الشهود بالشركة، فهل يصح البيع في ملكه ويبطل في الباقي ‏؟‏ أو يبطل الجميع‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، أما بيع نصيب الغير فلا يصح إلا بولاية أو وكالة، وإذا لم يجزه المستحق بطل باتفاق الأئمة، لكن يصح البيع في نصيبه خاصة في أحد قولي العلماء بقسطه من الثمن، وللمشتري / الخيار في فسخ البيع، أو إجازته‏.‏ وإن كان المكان مما يقسم بلا ضرر فله إلزام الشريك بالقسمة‏.‏ وإن كان مما لا يقسم إلا بضرر فله المطالبة ببيع الجميع ليقتسما الثمن‏.‏

وإذا كان الشاهد يعلم أن البائع ظالم، وشهد على بيعه معونة على ذلك، فقد أعان على الإثم والعدوان، والمعاونة بالشهادة على العقود المحرمة لا تجوز، بل قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لعن اللّه آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏إني لا أشهد على جور‏)‏، فمن فعل ذلك مصرًا عليه قُدِحَ فِي عدالته‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل ـ رَحمه اللّه‏:‏ هل يجوز بيع الكرم لمن يعصره خمرًا، إذا اضطر صاحبه الى ذلك ‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا يجوز بيع العنب لمن يعصره خمرًا، بل قد لعن رسول اللّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يعصر العنب لمن يتخذه خمرًا، فكيف بالبائع له الذي هو أعظم معاونة‏.‏ ولا ضرورة الى ذلك، فإنه إذا لم يمكن بيعه رطبًا، ولا تزبيبه، فإنه يتخذه خلًا، أو دبسًا، ونحو ذلك‏.‏

/

 وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن شراء الجِفان، لعصير الزيت، أو للوقيد، أو لهما ‏؟‏

فأجاب‏:‏

بيع جفان الزيت جائز‏.‏ وإن لم يعلم مقدار زيته كما يجوز بيع حب القطن والزيتون ونحوهما من المنعصرات، والمبيعات مجازفة‏.‏ وسواء اشتراه للعصير، أو للوقيد، لكن لا يجوز للعاصر أن يغش صاحبه‏.‏ وإذا كان قد اشترط أن تكون الجفنة أجرة لرب المعصرة، بحيث قد واطأ عليه العاصر على أن يبقي فيها زيتًا له، كان هذا غشا حرامًا، وحرم شراؤه للزيت‏.‏

 

وسئل عن رجل له دكان مستأجرة بخمسة وعشرين كل شهر، وله فيها عدة وقماش، فجاء إنسان فقال‏:‏ أنا أستأجر هذه الدكان بخمسة وأربعين، وأقعد بالعدة والقماش أبيع فيه وأشتري، فهل يجوز ذلك أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

هذا قد جمع بين بيع وإجارة معًا، وذلك جائز في أظهر قولي العلماء‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/

 وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عمن ضمن من ولاة الأمور ألا يباع صنف من الأصناف إلا من عنده، وذلك الصنف لا يوجد إلا عنده في تلك البقعة، ويوجد في الأماكن القريبة من نواحي تلك البقعة، بحيث تكون المسافة ما بين مصر والقاهرة، فهل يجوز الابتياع من هذا المحتكر، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، أما هو نفسه فلا يحل له أن يفعل من وجهين‏:‏

من جهة أنه يمنع غيره من البيع الحلال‏.‏ ومن جهة أنه يضطر الناس الى الشراء منه، حتى يشتروا ما يريد، فيظلمهم بزيادة الثمن‏.‏

وأما ما يشتري منه، فإن كان قد اشتراه بمال له حلال، لم يحرم شراؤه منه؛ لأن المشتري هو المظلوم، ومن اشترى لم يأثم، ولا يحرم ما أخذه لظلم البائع له؛ فإن مثل هذا إنما يحرم على الظالم، لا على المظلوم‏.‏

وأما إن كان اشترى ما اشتراه بما ظلمه من الأموال، كان ذلك مغصوبًا محضًا، كالشراء من الغاصب، فحكم هذا ظاهر‏.‏

/وأما إن كان أصل ماله حلالًا، ولكن ربح فيه بهذه المعيشة، حتى زاد، فهذا قد صار شبهة بقدر ما خالطه من أموال الناس، فلا يقال‏:‏ هو حرام‏.‏ ولا يقال‏:‏ حلال محض، لكن إن كان الغالب عليه الحلال جاز الشراء منه، وتركه ورع‏.‏

وأما إن كان الغالب الحرام، فهل الشراء منه حلال أو حرام‏؟‏ على وجهين‏.‏ ولا ريب أن الربح الذي يحصل له بعضه يستحقه، وهو ما يستحقه مثله، فإن ماله الذي قبض منه لو قبض بعقد فاسد لوجب له مثله، أو قيمة مثله، والمشترون يأخذون سلعته، فله عليهم مثلها، أو قيمة مثلها‏.‏

ثم إن أهل الضمان يأخذون منه بعض ما ظلمه، فإن الحانوت يكون شراؤه عشرين، فيلزمونه بخمسين؛ لأجل الضمان، فتلك الثلاثون حرام عليهم، وهي قد أخذت منه‏.‏ وأما ما يبقي له من الزيادة المحرمة، فهاتيك التي ماله، ومع الحاجة، وتعدل غيره بكون الرخصة أقوي‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/

 

وسئل عن الأعيان المضمنة من الحوانيت كالشيرج وغيره، من الأطعمة وغيرها، وهي أن إنسانًا يضمن بيع شيء من الأشياء وحده، بشرط ألا يبيع غيره شيئًا من ذلك‏.‏ فيقول‏:‏ عندي كذا وكذا كل شهر لمالك حانوت، أو خان، أو موضع آخر، على أن أشتري وأبيع فيه شيئًا لا يبيعه غيري، أو أعمل كذا وكذا ـ يعني شيئا يذكره ـ على أن غيري لا يعمل مثله، فهل يجوز الشراء من هذا الإنسان من هذه الأعيان التي يبيعها، مع التمكن من مشتري غيرها من جنسها، أم لا ‏؟‏ وهل يجوز استعمال شيء منها بالأعيان باعتبار مشقة عند تحصيل غير ذلك الشيء أم لا ‏؟‏ سواء كانت الضرورة داعية الى ذلك الاستعمال، أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، أما مع الغني عن الاشتراء منه، فينبغي ألا يشتري منه؛ فإنه ظالم بمنع غيره، ولو لم يكن في ماله شبهة فمجانبته وهجره أولي، بحسب الإمكان‏.‏

وأما الشراء منه ـ لا سيما مع الحاجة ـ فلا يحكم بتحريمه‏.‏ ولا / يحكم بتحريمه إذا اشتري مع إمكان الشراء من غيره، ولكن مع الحاجة لا يكره الشراء منه، فإن هذا له مال يشتري به ويبيع، لكن إذا منع غيره واحتاج الناس الى الشراء منه باعهم بأغلي من السعر، فظلمهم‏.‏ وغايته أن يكون بمنزلة ما يضعه الظلمة على الناس من البضائع بأكثر من قيمته، فيشترونه مكرهين، فإن هذا لا يحرم على المشتري ما اشتراه، ولكن يحرم على البائع ما أخذه بغير حق، لكن قد يقال‏:‏ إن هذا قد اختلط بماله من تلك الزيادات المحرمة، فصار في ماله شبهة‏.‏

فيقال أولا‏:‏ من غلب على ماله الحلال جازت معاملته، كما ذكره أصحاب الشافعي، وأحمد‏.‏ وإن غلب الحرام‏:‏ فهل معاملته محرمة أو مكروهة‏؟‏ على وجهين‏.‏

ثم يقال‏:‏ تلك الزيادات ليس لها مستحق معين يعرف، والواجب عند جمهور العلماء فيما لا يعرف مالكه أن يصرف في مصالح المسلمين، وهذا إنما منعناه من الزيادة؛ لئلا يظلم الناس، فلو جعلنا ما يشتريه الناس منه حرامًا لكنا قد زدنا الضرر على الناس إذا احتاجوا أن يشتروا منه بأكثر من القيمة، والذي اشتروه حرام، وهم لا يطيقون الشراء من غيره، وهذا لا يجوز أن يقال، بل يجوز الشراء من مثل هذا، والمشتري منه لم يظلم أحدًا، فإن ما اشتراه قد أعطاه عوضه وزيادة، والمستحق للعوض هو المستحق لما معه من المال، فإذا كان المستحق / لذلك جماعة من المسلمين أو معين منهم، فهو نفسه قد ظلم أولئك جميعهم بما أخذه منهم بغير حق‏.‏ وأما المشتري منه الذي أعطاه العوض وزيادة فلم يظلم أحدًا‏.‏

وهذا بين إذا كان ماله مختلطا بعضه ببعض لا يتميز منه ما أخذه حرامًا، فإن حق المظلومين ثبت في ذمته، وهذه الأعيان التي في يده لا يستحقها بعينها المظلومون، فمعاوضته عليها جائزة، وعليه أن يعطي المظلوم ما أخذه بغير حق‏.‏ وبهذا أفتي في مثل هذا من شاء اللّه من العلماء، وهذا كسائر من عليه دين للناس وهو ظالم بمطله للغرماء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مَطْل الغِنَي ظُلْم‏)‏‏.‏

ثم مع هذا إذا عاوض على مافي يده بمعاوضة المثل وزيادة جاز باتفاق العلماء، ولم يكره الشراء منه، ولكنه لو تبرع تبرعًا يتعذر معه أداء الدين الواجب، ففي نفوذ تبرعه قبل الحجر عليه قولان للعلماء، لكن يقال‏:‏ هذا الظالم لما أخذ الزيادة، واشتري بها، فقد تعلق حق المظلوم بما اشتراه بماله؛ بخلاف الدين الذي حصل برضا الغريم، فإن صاحبه لا حق له في غير مال المدين‏.‏ فيقال‏:‏ هذا ينبني على أصول‏:‏

أحدها‏:‏ أن الدراهم التي أخذها زيادة بغير حق، هل يتعين حق صاحبها فيها، أو للغاصب أن يعطيه من حيث شاء‏؟‏

/وللعلماء قولان في الدراهم، هل تتعين بالتعيين في العقود والقبوض حتى في الغصب والوديعـة ‏؟‏ فقيـل‏:‏ تتعين مطلقـا، كقـول الشافعـي، وأحمد في إحدى الروايتين‏.‏ وقيل‏:‏ لا تتعين مطلقا، كقول ابن قاسم‏.‏ وقيل‏:‏ تتعين في الغصب والوديعة دون العقد، كقـول أبي حنيفة، وأحمد في الرواية الأخري، فإذا خلط المغصوب بمثله على وجه لا يتميز، كما تخلط الأدهان والألبان والحبوب وغيرها، فهل يكون الخليط كالإتلاف، حيث يبقي حق المظلوم في الذمة، فيعطيه الظالم من حيث شاء‏؟‏ أو حقه باق في العين، فله أن يأخذ من عين الخلط بالقسمة‏؟‏ فيه وجهان في مذهب الشافعي، وأحمد‏.‏

ومعلوم أن تلك الدراهم الزائدة ليست متعينة، سواء اشتري منه دراهم في الذمة أو منفعة؛ فإن المظلوم أخذ منه القدر الزائد على عوض المثل، وليس هو متعينًا، ولو كان متعينا ثم خلطه بما لا يتميز منه سقط حقه من التعيين، في أحد القولين، فكيف إذا لم يكن متعينًا في الأصل‏؟‏ فعلى قول كثير من العلماء ليس حقه إلا في ذمة الظالم‏.‏

وهذا نظير قول من يقول‏:‏ إن المضارب والمودع إذا مات ولم يعين الوديعة والمضاربة صارت دينًا في ذمته، ولم يجعلوا لصاحب المال حقًا في عين التركة؛ فإن تفريط المودع حين لم يميز الوديعة من غيرها موجب لضمانه،لكن هؤلاء أسقطوا حق المالك من عين مال الميت، فلم / يقدموه بعين ماله على الغرماء، بل جعلوه غريمًا من الغرماء، وإن كان عين ماله مختلطا، والظلم يكون بترك الواجب، وفعل المحرم‏.‏ فترك المودع ما يجب عليه من التمييز ظلم منه‏.‏

وهذا القول ـ وهو سقوط حق المالك من العين ـ وإن كنا لا ننصره، لكن المقصود بيان مأخذ هذه المسألة على أصول العلماء؛ ولهذا لما فرع هذه المسألة من فرعها من المالكية، بنوا الأمر على أن حق المظلوم تعلق بالذمة دون العين‏.‏

والأصل الثاني‏:‏ أن الظالم في العادة إنما يشتري في الذمة، ثم ينفذ عين المال، وفي صحة مثل هذا قولان معروفان للعلماء‏.‏

الأصل الثالث‏:‏ أن نسلم أن حق المظلوم يتعلق بعين مال الظالم،وإن فاتت العين، لكون هذا بدل ماله‏.‏ وهذا القول الذي فرعه،وهو أن يخير المظلوم بين المطالبة بشطر حقه، وبين أن يكون حقه متعلقًا بعين المال،ويكون ما يزيد من المال من نماء وربح وغيره له المطالبة به، لكن يقال على هذا‏:‏ المظلوم ليس له إلا قدر حقه،وأما الزيادة الثانية التي حصلت بتصرف الظالم فهي مبنية على وقف العقود‏.‏ فمن قال‏:‏إن العقود لا توقف، يقول‏:‏ ما قبضه البائع الظالم من المشتري لم يملكه؛ لأنه قبضه بعقد فاسد،والثمن الذي أداه وقد غصبه هو / في ذمته، فيكون عليه دون الناس الذين ظلمهم، وما في يده لا يملكه، بل هو لأناس مجهولين لا يعرفهم‏.‏ ولا يتصرف في مالهم إلا بإذنهم‏.‏وعلى هذا ففيه قولان‏:‏

قيل‏:‏ إن ولي الأمر كالحاكم وغيره ممن له ولاية التصرف على الغائبين، يقضي الديون التي وجبت عليهم للبائع بالأموال التي في يده لهم‏.‏

وقيل‏:‏ إن البائع له أن يستوفي دينه الذي عليهم مما لهم في يده من المال، ولا يحتاج الى استئذان حاكم، وهذا أصح؛ فإن المعلوم لصاحبه أن يستوفيه من مال من هو عليه، ولا يحتاج الى إذن الحاكم، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للضيف المظلوم أن يأخذ حقه من زرع المضيف بغير إذنه، وكما أمر المرأة أن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف بلا إذن الزوج، لكن إذا كان الحق مجحودًا‏.‏ فقد قال‏:‏ ‏(‏أدِّ الأمانة الى من ائتمنك ولا تَخُنْ من خانك‏)‏ فكيف إذا كان الإنسان قد باع غيره سلعة بيعًا فاسدًا، وقبض منه الثمن، فله أن يستوفي منه من هذه السلعة بطريق الأولى، والأحرى ‏؟‏‏!‏

وأما على قول جمهور العلماء القائلين بوقف العقود حتى توفي التبرعات عند الحاجة، فيقولون من بيده مال غصب، أو وديعة، أو عارية، وهو لا يعلم عين مالكه، يتصدق به عنه، وهذا قول مالك، وأبي / حنيفة، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، ولكن لصاحبه إذا ظهر ألا ينفذ ذلك‏.‏

وأما المعاوضة على ذلك فليس لصاحبه إذا عرف أن يردها، بل تثبت الولاية على المعاوضة شرعًا للحاجة، كما لو مات رجل في موضع ليس فيه وصى ولا وارث ولا حاكم، فإن رفقته في السفر تثبت لهم الولاية على ماله، فيحفظونه، ويبيعون ما يرون بيعه مصلحة، وينفذ هذا البيع، ولهم أن يقبضوا ما باعوه، ولا يقف ذلك على إجازة الورثة، وليس هذا من التصرف الفضولي، بل هو يعرف بولاية شرعية للحاجة، كما ثبت لهم ولاية غسله، وتكفينه من ماله، ودفنه، وغير ذلك، فإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض‏.‏

وإذا عرف هذا، فالبائع الذي باع ما اشتراه بتلك الزيادة، وقبض الثمن من المشتري، إذا قيل‏:‏ البيع فاسد لا يقف على الإجازة، ولا على المشتري رد ما قبض منه، وعليه رد ما قبض من الثمن، فإذا تعذر رد المشتري ما قبض، كان له أن يأخذ نظير ذلك‏.‏ وقد يكون أكثر من الثمن وأقل، والغالب أنه مثله‏.‏

وكذلك ما اشتراه، تلك الزيادة عليه ردها الى صاحبه، وعلى صاحبه رد الزيادة الى صاحبها، فقابض الزيادة الظلمية إذا لم يردها كان للمظلوم / الأول أن يأخذ من ماله الذي صار بيد البائع نظير ذلك، وقابضها الذي باع بها ماله، إذا لم يرد ماله كان له أن يأخذ بقدره من تلك الزيادة‏.‏ وهذا احتمال كل من تبايعا بيعًا فاسدًا وتقابضاه، إذا قيل‏:‏ إن المقبوض بالعقد الفاسد لا يملك، فكل منهما له عند الآخر ما قبضه الآخر منه، وللآخر عنده ما قبضه منه‏.‏ فإذا تعذر الرد كان له أن يأخذ قدر حقه، سواء كان من جنس الحق، أو من غير جنسه‏.‏

وعلى هذا فما صار بيد هذا الضامن الظالم من الزيادات الظلمية من أموال المشترين المختلطة التي لا تتميز، إذا اشتـرى بهـا شيئـًا، وأقبـض المشتريـن، ملك الزيـادة، وقبض ما اشتراه، كان ما حصل بيده من أموالهم بإزاء ما قبضوه من الزيادة الى مستحقها، فلا يكون الشراء منه بثمن المثل حرامًا، فكيف من اشتري منه بزيادة، بخلاف ما يؤخذ منه تبرعًا، فهذا فيه كلام آخر ليس هذا موضعه‏.‏ فإن ابن مسعود سئل عن رجل يعامل بالربا، إذا أضاف غيره‏.‏ فقال ابن مسعود‏:‏ كل، فإن مهناه لك، وحسابه عليه‏.‏ وهذا للعلماء فيه كلام، وليس هذا موضعه‏.‏ وينبني على هذا أصول متعددة‏.‏

منها‏:‏ المقبوض بالعقد الفاسد، هل يملك أو لا يملك ‏؟‏

ومنها‏:‏ إذا تصرف في العين تصرفًا يمنع ردها بعينها، فهل ينتقل الحق الى ذمته ‏؟‏ أو هو باق في ماله الذي اختلط به العين والذي عاوض/ به عن العين ‏؟‏ وغير ذلك من المسائل‏.‏

وأما إذا قلنا بوقف العقود ـ لا سيما مع تعذر الاستئذان، كما هو مذهب الثلاثة ـ فالأمر في ذلك أظهر‏.‏ فإن العادة الغالبة أن الناس يرضون ببيع مثل هذه الأموال التي أعدوها للبيع بالزيادة، بخلاف ما أعدوه للقنية‏.‏

وأيضا، فالمظلوم وإن كان له في هذا المال حق قليل بسبب الزيادة التي ظلمها، فبعضه لصاحب الحانوت الظالم، ولا يتميز هذا عن هذا، ومثل هذا إذا طلب أحد الشريكين بيعه أجبر الممتنع على البيع لأجل شريكه، فمن كان بينهما مال لا يقبل القسمة ـ كحيوان ـ إذا طلب أحد الشريكين بيعها وقسمة الثمن أجبر الآخر على ذلك عند جمهور العلماء، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة وأحمد، وذكر بعض المالكية أن هذا إجماع؛ لأن حق الشريك في نصف قيمة الجميع لا في قيمة النصف‏.‏ بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏من أعتق شركـًا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة عدل، لا وَكْس، ولا شَطَط‏.‏فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق‏)‏، فجعل حق الشريك في نصف قيمة الجميع، وأمر بتقويم جميع العبد، لا بتقويم حصة الشريك فقط‏.‏

/ فإذا كان كذلك فمعلوم أن الزيادة الظلمية لا تتميز عن المزيد، ولا يمكن القسمة بينهما إلا بقسمة العين، أو قسمة بدلها، والعين قد تعذر ردها فتعين قيمة بدلها‏.‏ فدل على أنه يجوز أن يعاوض صاحب الحانوت على مافي يده من الأموال، وعليه أن يعطي الشركاء المظلومين حقوقهم‏.‏ وأنه إما أن يقال‏:‏ إن حق المظلومين في ذمته فقط، أو أنها متعلقة بالأعيان مع جواز المعاوضة لتوفية حقوقهم؛ إذ لا سبيل الى توفية حقوقهم بالعدل إلا مع ذلك، وعلى هذا فالمشترون تسلموا ما اشتروه شراء حلالًا جائزًا‏.‏

وعلى هذا أدلة أخرى تبين أن الناس المشترين لم يظلموا أحدًا إذا اشتروا، وأن شراءهم جائز، وأن منع الناس من الشراء من هؤلاء ظلم مضاعف لم يأمر اللّه به، ولا رسوله‏.‏ وعلى هذا فمع الحاجة الى الشراء منه لا يكره الشراء منه، فضلا عن أن يحرم‏.‏

وأما إذا قدر أن الذي باعه عين المعقود،فهذا ينبني على وقف العقود، وعلى التصرف في مال المالك المجهول بغير إذنه للمصلحة،وأكثر العلماء على القول بوقفها، لا سيما عند الحاجة، وهو مذهب مالك،وأبي حنيفة، وكذلك أحمد عند الحاجة،مثل أن يتعذر استئذان المالك لعدم العلم به، وفي ذلك بدون الحاجة روايتان‏.‏واختار الخرقي القول بوقفها، كمذهب مالك،وأبي حنيفة،وهو قول الشافعي،فيكون/ تصرفه في مال الغير موقوفًا على إجازته إذا أمكن استئذانه‏.‏ وأما المجهول الى لا يعرف، فلا يفتقر ذلك الى استئذانه، بل ينفذ التصرف له بالمصلحة‏.‏ ولو عرف بعد ذلك لم يكن له رد المعاوضات، وإنما له رد التبرعات، كصاحب اللقطة‏.‏

وقد عرف من حيث العادة أن أرباب مثل هذه الأموال المسؤول عنها ليس لهم غرض في شيء بعينه‏.‏ ولا يكره أحدهم أن تباع سلعته بزيادة، فإنهم يختارون بيع المشتري، ولكن البائع هو الذي ظلمهم، وهو هنا لما لم يعرف المالك جاز التصرف بالعقد والقبض، بخلاف ما إذا عرف المالك‏.‏، فإنه لابد من استئذانه في القبض باتفاق العلماء‏.‏

وهذا كاللقطة التي لا يعرف مالكها‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فهو مال اللّه يؤتيه من يشاء‏)‏، فإذا تصدق بها الملتقط كان ذلك موقوفًا على إجازة المالك إذا عرف عند جمهور العلماء، وقبل أن يعرف يكون التصدق نافذًا غير موقوف، ولكن الملتقط البائع ليس بظالم، وهنا البائع ظالم، لكن المشتري ليس بظالم، والمال لا يمكن إتلافه، وهو بيد البائع الظالم، فأخذ الشراء له بالزيادة حرام للمالك المجهول، فالشارع ينفذ الملك لمصلحة المشتري، والمالك المجهول المظلوم، إن كان البائع ظالمًا‏.‏

كما لو قدر أن ناظر الوقف، ووصي اليتيم، والمضارب والشريك / خانوا، ثم تصرفوا مع ذلك، فلابد من تصحيح تصرفهم في حق المشتري منهم، وحق رب المال، وإلا فلو أبطل ذلك فسد عامة أموال الناس التي يتصرف فيها بحكم الولاية والوكالة؛ لغلبة الخيانة على الأولياء والوكلاء، لاسيما ويدخل في ذلك من تصرفات ولاة الأمور ما لا يمكن إبطاله ـ والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها ـ فلا يجوز لأحد رعاية حق مجهول في عين حصل عنها بدل خير له‏.‏

منها‏:‏ أن يحرم عليه وعلى المشترين أموالهم، فإن هذا بمنزلة من يهدم مصرًا ويبني قصرًا‏.‏ وبسط هذه المسألة وتوابعها له مكان آخر، قد ذكر في ذلك من الشواهد، وكلام العلماء والصحابة والتابعين ما لا يتسع له هذا الموضع‏.‏

/

 وسئل ـ رَحمه اللّه تعالى‏:‏

هل هذه الأشياء المطعومات التي يؤخذ عليها المكس، وهي مضمنة، أو محتكرة، هل يحرم على من يشتري منها شيئًا، ويأكل منها‏؟‏ وإن عامل رجل لإنسان كل ماله حرام مثل ضامن المكس، أو من ليس له مال سوي المكس، فهل يفسق بذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، أما إذا كان الرجل يبيع سلعته من طعام أو غيره وعليهما وظيفة تؤخذ من البائع أو المشتري‏.‏ فهذا لا يحرم السلعة، ولا الشراء، لا عن بائعها ولا على مشتريها، ولا شبهة في ذلك أصلا‏.‏

وكذلك إذا كان المأخوذ بعض السلعة،مثل أن يأخذوا من الشاة المذبوحة سواقطها، أو من الحبوب والثمار بعضها،ومن ظن في ذلك شبهة فهو مخطئ،فإن هذا المال المأخوذ ظلما،سواء أخذ من البائع أو من المشتري، لا يوجب وقوع الشبهة فيما بقي من المال، وكما لو ظلم الرجل وأخـذ بعض ماله، فإن ذلك لا يوجب وقوع الشبهة فيما بقي من ماله‏.‏

وهذه الوظائف الموضوعة بغير أصل شرعي، منها ما يكون موضوعًا / على البائع مثل سوق الدواب ونحوه‏.‏ فإذا باع سلعته بمال فأخذ منه بعض ذلك الثمن كان ذلك ظلمًا له، وباقي ماله حلال له، والمشتري اشتري بماله، وربما يزاد عليه في الثمن لأجل الوظيفة، فيكون منه زيادة‏.‏ فبأي وجه يكون فيما اشتراه شبهة‏؟‏ وإن كانت الوظيفة تؤخذ من المشتري فيكون قد أدي الثمن للبائع، والزيادة لأجل تلك الكلفة السلطانية، ولا شبهة في ذلك لا على البائع، ولا على المشتري؛ لأن المنافع لم تؤخذ إلا بما يستحقه، والمشتري قد أدي الواجب وزيادة‏.‏

وإذا قيل‏:‏ هذا في الحقيقة ظلم للبائع؛ لأنه هو المستحق لجميع الثمن‏.‏ قيل‏:‏ هب أن الأمر كذلك، ولكن المشتري لم يظلمه، وإنما ظلمه من أخذ ماله، كما لو قبض البائع جميع الثمن، ثم أخذت منه الكلفة السلطانية‏.‏

وفي الحقيقة فالكلفة تقع عليهما؛ لأن البائع إذا علم أن عليه كلفة زاد في الثمن، والمشتري إذا علم أنه عليه كلفة نقص من الثمن، فكلاهما مظلوم بأخذ الكلفة، وكل منهما لم يظلم أحدًا، فلا يكون في مالهما شبهة من هذا الوجه، فما يبيعه المسلمون إذا كان ملكا لهم لم يكن في ذلك شبهة بما يؤخذ منهم في الوظائف‏.‏

وأما إذا ضمن الرجل نوعًا من السلع على ألا يبيعها إلا هو،/ فهذا ظالم من وجهين‏:‏ من جهة أنه منع غيره من بيعها، وهذا لا يجوز، ومن جهة أنه يبيعها للناس بما يختار من الثمن، فيغليها، وهؤلاء نوعان‏:‏

منهم‏:‏ من يستأجر حانوتًا بأكثر من قيمتها، إما لمقطع، وإما لغيره، على ألا يبيع في المكان إلا هو، أو يجعل عليه مالًا يعطيه لمقطع أو غيره بلا استئجار حانوت، ولا غير ذلك، وكلاهما ظالم، فإن الزيادة التي يزيدها في الحانوت لأجل منع الثاني من البيع، هو بمنزلة الضامن المنفرد‏.‏

والنوع الثاني‏:‏ ألا يكون عليهم ضمان، لكن يلتزمون بالبيع للناس؛ كالطحانين والخبازين ونحوهم ممن ليس لهم وظيفة، لكن عليه أن يبيع كل يوم شيئًا مقدرًا، ويمنعون من سواهم من البيع؛ ولهذا جاز التسعير على هؤلاء، وإن لم يجز التسعير في الإطلاق‏.‏ فإن هؤلاء قد أوجبت عليهم المبايعة لهذا الصنف، ومنع من ذلك غيرهم، فلو مكنوا أن يبيعوا بما أرادوا كان ظلما للمساكين، بخلاف ما إذا كان الناس كلهم متمكنين من ذلك، فإنه يكون كما في السنن عن أنس قال‏:‏ غلا السعر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يارسول اللّه سعر لنا، فقال‏:‏ ‏(‏إن اللّه هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقي اللّه، وليس أحد يطلبني بمظلمة في مال‏)‏‏.‏

/وأما في الصورة، فإذا كانوا قد ألزموا بالمبايعة لم يجز أن يلزموا بأن يبيعوا بدون ثمن المثل؛ لأن ذلك ظلم لهم، وإذا كان غيرهم قد منع من المبايعة لم يجز أن يمكنوا أن يبيعوا بما اختاروا؛ فإن ذلك ظلم للناس‏.‏

يبقي أن يقال‏:‏ فهل يجوز التزامهم بمثل ذلك على هذا الوجه، على أن يكونوا هم البائعين لهذا الصنف دون غيرهم، وألا يبيعوه إلا بقيمة المثل من غير مكس يوضع عليهم‏؟‏ فهل يجوز للإمام أن يفعل بهم ذلك، أم يجب عليه ألا يترك أحدًا يفعل ذلك ‏؟‏

قيل‏:‏ أما إذا اختاروا أن يقوموا بما يحتاج الناس اليه من تلك المبيعات، وألا يبيعوها إلا بقيمة المثل، على أن يمنع غيرهم من البيع،ومن اختار أن يدخل معهم في ذلك مكن، فهذا لا يتبين تحريمه، بل قد يكون في هذا مصلحة عامة للناس، وهذا يشبه ما نقل عن عمر في التسعير، وأنه قال‏:‏ إن كنت تبيع بسعر أهل الأسواق، وإلا فلا تبع‏.‏ فإن مصلحة الناس العامة في ذلك أن يباعوا بما يحتاجون اليه، وألا يباعوا إلا بقيمة المثل، وهذان مصلحتان جليلتان‏.‏

والباعة إذا اختاروا ذلك لم يكونوا قد أكرهوا عليه، فلا ظلم عليهم، وغيرهم من الناس لم يمنع من البيع، إلا إذا دخل في هذه / المصلحة العامة، بأن يشاركهم فيما يقومون به بقيمة المثل، فيكون الغير قد منع أن يبيع سلعة بأكثر من ثمن المثل، وألا يبيعها، إلا إذا التزم أن يبيع لواحد منهم‏.‏ وقد يكون عاجزًا عن ذلك‏.‏ وقد يقال‏:‏ هذان نوعان من الظلم‏:‏ إلزام الشخص أن يبيع، وأن يكون بيعه بثمن المثل، وفي هذا فساد‏.‏ وحينئذ فإن كان أمر الناس صالحًا بدون هذا لم يجز احتمال هذا الفساد بلا مصلحة راجحة، وأما إن كان بدون هذا لا يحصل للناس ما يكفيهم من الطعام ونحوه، أو لا يلقون ذلك إلا بأثمان مرتفعة، وبذلك يحصل ما يكفيهم بثمن المثل‏.‏ فهذه المصلحة العامة يغتفر في جانبها ما ذكر من المنع‏.‏

وأما إذا ألزم الناس بذلك فهذا فيه تفصيل؛ فإن الناس إذا اضطروا الى ما عند الإنسان من السلعة والمنفعة وجب عليه أن يبذل لهم بقيمة المثل، ومنعه ألا يبيع سلعة حتى يبيع مقدارًا معينًا‏.‏ وتفصيل هذه المسائل ليس هذا موضعه‏.‏

إذا تبين ذلك، فالذي يضمن كلفة من المكلف على ألا يبيع السلعة إلا هو، ويبيعها بما يختار، لا ريب أنه من جنس ظلم الكلف السلطانية من الوجهين اللذين تقدما؛ ولهذا كره من كره معاملة هذا لأجل الشبهة التي في ماله‏.‏ فإنه إذا كان لا يبيع إلا هو بما يختار صار كأنه يكره الناس على الشراء منه بما يختاره، فيأخذ منهم أكثر مما يجب عليهم،/ وتلك الشبهة قد اختلطت بماله، فيصير في ماله شبهة من هذا الوجه؛ فلهذا كره من كره معاملتهم‏.‏

وهذا سبيل أهل الورع الذين لا يأكلون من الشواء المضمن، ونحو ذلك، فإنهم إنما تورعوا عما كان بهذه المثابة، وهو أن يكون بحيث لا يشوي إلا هو، ولا يبيع الشواء إلا هو بما يختاره، ولا يبيع الملح إلا هو بما يختاره، والملح ليست كغيرها، فإن الملح في الأصل هو من المباحات التي يشترك فيها المسلمون، كالسمك وغيره من المباحات، إذا لم يمكن من أخذها إلا واحد بضمان عليه، والذي يشتريها منه بماله لا يحرم؛ لأن هذا المشتري لم يظلم فيه أحدًا، بل لو أخذها من الأصل كان له ذلك، ولو استأجر هذا أو غيره ليأخذها له من موضعها المشترك كان ذلك جائزًا، ولو كانت مشتركة بين المسلمين لكانت تكون أرخص، وكان المشتري يأخذها بدون ما أعطاه الضامن، فهذا الضامن يظلم المشتري وغيره‏.‏

وأما المشترون منه فهم لا يظلمون أحدًا، ولم يشتروا منه شيئا ملكه بماله، فإنما حرم عليه من الظلم من ترك ملكه لا يفوته، ولم يظلم فيه أحدًا؛ لأنها في الأصل مباحة، والمسلمون الذين يشترونها هم المظلومون، فإنه لولا الظلم لتمكنوا من أخذها بدون الثمن، فإذا ظلموا وأخذ منهم أكثر مما عليهم لم يكن ذلك محرمًا عليهم لما كان / مباحا لهم؛ إذ الظلم إنما يوجب التحريم على الظالم لا على المظلوم‏.‏

ألا ترى أن المدلس والغاش ونحوهما إذا باعوا غيرهم شيئًا مدلسًا لم يكن ما يشتريه حرامًا عليه؛ لأنه أخذ منه أكثر مما يجب عليه، وإن كانت الزيادة التي أخذها الغاش حرامًا عليه‏.‏ وأمثال هذا كثير في الشريعة؛ فإن التحريم في حق الآدميين إذا كان من أحد الجانبين لم يثبت في الجانب الآخر، كما لو اشتري الرجل ملكه المغصوب من الغاصب، فإن البائع يحرم عليه أخذ الثمن، والمشتري لا يحرم عليه أخذ ملكه، ولا بذل ما بذله من الثمن؛ ولهذا قال العلماء‏:‏ يجوز رشوة العامل لدفع الظلم، لا لمنع الحق، وإرشاؤه حرام فيهما‏.‏ وكذلك الأسير والعبد المعتق، إذا أنكر سيده عتقه، له أن يفتدي نفسه بمال يبذله، يجوز له بذله، وإن لم يجز للمستولي عليه بغير حق أخذه‏.‏

وكذلك المرأة المطلقة ثلاثًا إذا جحد الزوج طلاقها، فافتدت منه بطريق الخلع في الظاهر كان حرامًا عليه ما بذلته ويخلصها من رق استيلائه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني لأعطي أحدهم العطيَّة فيخرج بها يتلظَّاها نارًا‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول الله، فلم تعطيهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يأبون إلا أن يسألوني، ويأبي الله لي البُخل‏)‏‏.‏

ومن ذلك قوله‏:‏ ‏(‏ما وقي به المرء عرضه فهو صدقة‏)‏‏.‏ فلو أعطي الرجل شاعرًا، أو غير شاعر؛ لئلا يكذب عليه بهجو أو غيره، أو لئلا يقول في عرضه ما يحرم عليه قوله، كان بذله لذلك جائزًا، وكان ما أخذه ذلك لئلا يظلمه حرامًا عليه؛ لأنه يجب عليه ترك ظلمه‏.‏ والكذب عليه بالهجو من جنس تسمية العامة‏:‏ ‏[‏ قطع مصانعه ‏]‏ وهو الذي يتعرض للناس، وإن لم يعطوه اعتدي عليهم، بأن يكون عونًا عليهم في الإثم والعدوان، أو بأن يكذب عليهم، وأمثال ذلك‏.‏ فكل من أخذ المال لئلا يكذب على الناس، أو لئلا يظلمهم كان ذلك خبيثًا سحتًا؛ لأن الظلم والكذب حرام عليه، فعليه أن يتركه بلا عوض يأخذه من المظلوم، فإذا لم يتركه إلا بالعوض كان سحتًا‏.‏

فالمباحات التي يشترك فيها المسلمون في الأصل؛ كالصيود البرية والبحرية، المباحات النابتة في الأرض، والمباحة من الجبال والبراري ونحو ذلك، كالمعادن وكالملح، وكالأطرون وغيرها إذا حجرها السلطان وأمر ألا يأخذها إلا نوابه، وأن تباع للناس، لم يحرم عليهم شراؤها؛ لأنهم لا يظلمون فيها أحدًا، ولأنهم هم المظلومون بحجرها عليهم، فكيف يحرم عليهم أن يشتروا مالهم أن يأخذوه بلا عوض؛ فإن نواب السلطان لا يستخرجونها إلا بأثمانها التي أخذوها ظلمًا، أو نحو ذلك من الظلم‏.‏

قيل‏:‏ تلك الأموال أخذت من المسلمين ظلمًا، والمسلمون هم / المظلومون، فقد منعوا حقوقهم من المباحات، إلا بما يؤخذ منهم يستخرج ببعضه تلك المباحات، والباقي يؤخذ، وذلك لا يحرم عليهم ما كان حلالًا لهم، وهذا ظاهر فيما كان الظلم فيه مناسبًا، مثل أن يباع كل مقدار بثمن معين، ويؤخذ من تلك الأثمان ما يستخرج به تلك المباحات، وهنا لا شبهة على المشتري أصلا؛ فإن ما استخرجت به المباحات هو حقهم أيضا‏.‏ فهو كما لو غصب رجل بيت رجل، وأمر غلمان المالك أن يطبخوا مما في بيته طعامًا فإن ذلك لا يحرم على المغصوب؛ لأنه يملك الأعيان والمنافع، وليس في ذلك إلا أن يكون التصرف وقع بغير وكالة منه، ولا ولاية عليه، وهذا لا يحرم ماله، بل ولا بذل ماله باتفاق المسلمين‏.‏ وإن كان ما يستخرج به تلك المباحات بدون المعاملة بالأموال السلطانية المشتركة‏.‏

وأما إذا استخرج نواب السلطان بغير حق من يستخرج تلك المباحات، فهذا بمنزلة أن يغصب من يطبخ له طعاما أو ينسج له ثوبا، وبمنزلة أن يطبخ الطعام بحطب مغصوب، وأمثال ذلك مما تكون العين فيه مباحة، لكن وقع الظلم في تحويلها من حال إلى حال‏.‏ فهذا فيه شبهة، وطريق التخلص منها أن ينظر النفع الحاصل في تلك العين بعمل المظلوم، فيعطي المظلوم أجره، وإن تعذر معرفة المظلوم تصدق به عنه؛ فإن هذا غايته أن يكون قد اختلط حلال وحرام، ولو اختلطت الأعيان التي يملكها بالأثمان التي / غصبها وأخذها حرامًا، مثل أن تختلط دراهمه ودنانيره بما غصبه من الدراهم والدنانير، واختلط حبه أو ثمره أو دقيقه أو خله أو ذهبه بما غصبه من هذه الأنواع، فإن هذا الاختلاط لا يوجب تحريم ماله عليه؛ لأن المحرمات نوعان‏:‏

محرم لوصفه وعينه‏:‏ كالدم والميتة ولحم الخنزير‏.‏ فهذا إذا اختلط بالمائع وظهر فيه طعم الخبث أو لونه أو ريحه حرم‏.‏

ومحرم لكسبه‏:‏ كالنقدين، والحبوب، والثمار، وأمثال ذلك‏.‏ فهذه لا تحرم أعيانها تحريما مطلقا بحال، ولكن تحرم على من أخذها ظلمًا أو بوجه محرم،فإذا أخذ الرجل منها شيئا، وخلطه بماله، فالواجب أن يخرج من ذلك القدر المحرم، وقدر ماله حلال له‏.‏ ولو أخرج مثله من غيره‏؟‏ ففيه وجهان في مذهب الشافعي وأحمد‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الاختلاط كالتلف، فإذا أخرج مثله أجزأ‏.‏

والثاني‏:‏ أن حق المظلوم يتعلق بالعين مع الخلط، فلابد أن يخرج قدر حق المظلوم من ذلك المال المختلط‏.‏

إذا تبين هذا، فإذا كان أثر عمل المظلوم قائمًا بالعين؛ مثل طبخه أو نسجه ونحو ذلك، فإنما يستحق قيمة ذلك النفع، فإذا أعطي المظلوم / قيمة ذلك النفع أخذ حقه، فلا يبقي لصاحب العين شريك، فلا يحرم عليه‏.‏ وأما إذا لم يعرف المظلوم فإنه يتصدق به عنه عند جمهور العلماء، كما لو حصل بيده أثمان من غصوب وعوارٍ وودائع لا يعرف أصحابها فإنه يتصدق بها عنهم؛ لأن المجهول كالمعدوم في الشريعة، والمعجوز عنه كالمعدوم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في اللقطة‏:‏ ‏(‏فإن جاء صاحبها فأدها إليه، وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء‏)‏‏.‏

فإذا كان في اللقطة التي تحرم، بأنها سقطت من مالك، لما تعذر معرفة صاحبها جعلها النبي صلى الله عليه وسلم للملتقط ـ ولا نزاع بين المسلمين في جواز صدقته بها، وإنما تنازعوا في جواز تملكه لها مع الغني، والجمهور على جواز ذلك ـ فكيف ما يجهل فيه ذلك‏.‏

وفي هذه المسألة آثار معروفة، مثل حديث عبد الله بن مسعود لما اشتري جارية، ثم خرج ليوفي البائع الثمن فلم يجده، فجعل يطوف على المساكين، ويقول‏:‏ اللهم هذه عن صاحب الجارية، فإن رضي فقد برئت ذمتي، وإن لم يرض فهو عني، وله على مثلها يوم القيامة‏.‏ وحديث الرجل الذي غل من الغنيمة، في غزوة قبرص، وجاء إلى معاوية يرد إليه المغلول، فلم يأخذه، فاستفتي بعض التابعين فأفتاه بأن يتصدق بذلك عن الجيش، ورجع إلى معاوية فأخبره، فاستحسن ذلك؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى يقول‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ ، والمال / الذي لا نعرف مالكه يسقط عنا وجوب رده إليه، فيصرف في مصالح المسلمين، والصدقة من أعظم مصالح المسلمين‏.‏ وهذا أصل عام في كل مال جهل مالكه، بحيث يتعذر رده إليه؛ كالمغصوب، والعواري والودائع، تصرف في مصالح المسلمين على مذهب مالك، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم‏.‏

وإذا صرفت على هذا الوجه جاز للفقير أخذها؛ لأن المعطي هنا إنما يعطيها نيابة عن صاحبها، بخلاف من تصدق من غلول، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحـديث الصحيح‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول‏)‏‏.‏

فهذا الذي يحوز المال ويتصدق به‏.‏ مع إمكان رده إلى صاحبه، أو يتصدق صدقة متقرب، كما يتصدق بماله، فالله لا يقبل ذلك منه، وأما ذاك فإنما يتصدق به صدقة متحرج متأثم، فكانت صدقته بمنزلة أداء الدين الذي عليه، وأداء الأمانات إلى أصحابها، وبمنزلة إعطاء المال للوكيل المستحق، ليس هو من الصدقة الداخلة في قوله‏:‏ ‏(‏ولا صدقة من غلول‏)‏‏.‏